الاثنين، 20 مارس 2017

تأملات في قصة موسى والعبد الصالح ..

هذه بعض من تأملاتي وقرأتي الخاصة لقصة موسى والعبد الصالح

ورد ذكر القصة في سورة الكهف الآيات 60  حتى  82 .

قال تعالى:  وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) (الكهف)

كان لموسى -عليه السلام- هدف من رحلته هذه التي اعتزمها،، وأنه كان يقصد من ورائها امرا، فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفه في الوصول. فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).

نرى أن القرآن الكريم لا يحدد لنا المكان  الارضي الذي وقعت فيه الحوادث، ولا يحدد لنا الزمان، كما أنه لم يصرح بالأسماء. ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟ وهل هو من البشر ام من مخلوقات  أخرى !  ..ان كل من في السماوات والارض الا أتي الرحمن عبدا ..


اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما ضبب أسماء الأشخاص لحكمة عليا.

إن القصة تتعلق بعلم  ومعرفة وافعال لا يقبلها ولا يرض بها الشرع  ولا يفعلها الانسان العاقل  في حياته الدنيوية  الواقعية  الظاهرية  !

 ان ذلك من علوم الخالق  العظيم  وكذلك  تلك افعاله الخفية الهادفة  النافعة ، وذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.. مكان اللقاء مجهول كما رأينا.. وزمان اللقاء غير معروف هو الآخر.. لا نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.

ويخفي السياق القرآني أيضا اسم أهم أبطالها.. يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) هو عبد أخفى السياق القرآني كنهه وسره .. هذا العبد هو الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه بعض من علومه ويدرك مغزى  ومدلول افعاله العجيبة

لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة. فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولى العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة ، وإنما كلمه الله تكليما.. هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم.. ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه السلام- كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون ، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها.

ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى، من اول وهلة . ويفهمه أنه لن يستطيع الصبر وقبول تصرفات الخضر . ثم يوافق على صحبته بشرط.. ألا يسأله موسى او يستنكر افعاله  حتى يحدثه الخضر عن تأويل واسباب افعاله الغريبة ..

والخضر هو الصمت والسر  المبهم ذاته، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.. إن هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى البشرية حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.. وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.. ورغم علم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه رحمة وعلما ..

وقد اختلف العلماء في الخضر: فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله، وفيهم من يعتبره نبيا.. وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده ، ونوعيته ، فقيل إنه لا يزال حيا إلى يوم القيامة،  وان هناك كثيرا من امثاله  موجودين في الحياة الدنيا  وتلكم هى مهامهم العظيمة  ، حيث قال الله عنه .عبدا من عبادنا ..

وقد قيل لنا بان  موسى قام  خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، ويبدو أن حديثه جاء جامعا مانعا رائعا.. بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟
قال موسى مندفعا: لا..
وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟

أدرك موسى أنه تسرع.. وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إن لله عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، وانعقدت نيته على البحث و مصاحبة هذا العبد العالم.. سأل كيف السبيل إليه.. فأمر أن يرحل، وأن يحمل معه حوتا في مكتل، أي سمكة في سلة.. وفي المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم.. انطلق موسى -طالب العلم- ومعه فتاه.. وقد حمل الفتى حوتا في سلة.. انطلقا بحثا عن العبد الصالح العالم.. وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.

ويظهر عزم موسى -عليه السلام- على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره الأمر إلى أن يسير أحقابا وأحقابا. قيل أن الحقب عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد.

وصل الاثنان إلى صخرة جوار احد البحور .. رقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا.. وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر.. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).. وكان تسرب الحوت إلى البحر علامة أعلم الله بها موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه.

نهض موسى من نومه فلم يلاحظ أن الحوت تسرب إلى البحر.. ونسي فتاه الذي يصحبه أن يحدثه عما وقع للحوت.. وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما.. ثم تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب.. (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا).. ولمع في ذهن الفتى ما وقع.

ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك.. وأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع، رغم غرابة ما وقع، فقد اتخذ الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).. كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون ، لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علامة وكأنه طير يتلوى على الرمال.

سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).. تلك العلامة والاشارة التي كنا نريدها وننتظرها ان تحدث . إن تسرب الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.. ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين.. انظر إلى بداية القصة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام.

أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت.. وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر.. وهناك وجدا العبد الصالح  المطلوب .

يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه.

فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك سلام..؟ من أنت؟
قال موسى: أنا موسى.
قال الخضر: موسى  نبي بني إسرائيل.. عليك السلام يا نبي  بني إسرائيل.
قال موسى: وما أدراك بي..؟
قال الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي.. ماذا تريد يا موسى..؟
قال موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).
قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك.. وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).

نريد أن نتوقف لحظة لنلاحظ الفرق بين سؤال موسى الملاطف المغالي في الأدب.. ورد الخضر الحاسم، الذي يفهم موسى أن علمه لا ينبغي لموسى أن يعرفه،  يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى: إن علمي أنت تجهله.. ولن تطيق عليه صبرا، لأن الظواهر التي ستحكم بها على علمي وافعالي  لن تشفي قلبك ولن تجد لها تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم لها سببا أو تدري لها علة.. وإذن لن تصبر على علمي  وافعالي يا موسى.

احتمل موسى كلمات العبد وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه.. وقال له موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا.

تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.

قال الخضر لموسى -عليهما السلام- إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم منه هو ألا يسأله عن شيء او كأنه يقصد كذلك بأن لا يستنكر افعاله  حتى يحدثه هو عنها .. فوافق موسى على الشرط وانطلقا معا في رحلتهما .

انطلق موسى وفتاه  مع الخضر يمشون على ساحل البحر ، غير انه في آيات القرآن ، لم يذكر ان فتى موسى انطلقا مع موسى والخضر
.. فمرت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها.. فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.. اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا.

فاستنكر موسى فعلة الخضر. لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، كما حركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه ويلومه على فعلته المشينة  وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).

وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه وعلى افعاله  (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).

سارا معا.. فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما.. ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا.. يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).. ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا).

ومضى موسى مع الخضر.. فدخلا قرية اهلها لا يكرموا ولا يستقبلوا  الضيوف .. لا يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.. وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار  او لعله بقية بناء قديم متهالك الجدران  لا يرد ولا يصد  ريحا او بردا .. بناء  يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.. وفوجئ موسى بأن الرجل الصالح  ينهض في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.. ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، إن القرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. انتهى الأمر بهذه العبارة.. قال عبد الله لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).

لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال. وجاء دور التفسير الآن..

إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره او بمشيئته .. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية.. وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، وهكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يعلم موسى، رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد الرباني من علم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر، من ماء البحر..

كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.. كشف له أن علمه -أي علم موسى- محدود.. كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى، تمشيا مع تفسير قول الله ..وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم ..

إن أصحاب السفينة المساكين الغير قادرين على مزاولة أي عمل  أخر يجلب لهم قيمة الطعام والشراب والحاجات الاساسية الدنيوية ،  سيعتبرون خرق  سفينتهم مصيبة حلت بهم  ، ويتطلب اصلاحها المال والوقت  منهم ، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الصالحة  الموجودة عنوة وقهرا ، ثم يترك  هذه السفينة التالفة المعيبة وامثالها . وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا.

أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل طفلهما  الصغير البريء ،  حتى وان كان الطفل معاقا او مشلول  او معلول جدا لا يرجى شفاه .. ثم تبين لهما  أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول.

وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.

أما البناء  الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا ذو منفعة  يخص  ومن حق غلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينهار ويتفتت  لظهر من تحته الكنز  واخذه اخرين  او سحبته واضاعته الرياح والسيول فلم يستطيعا  الغلامين  ان يتحصلا عليه .. ولما كان أبوهما عبدا صالحا في حياته  فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على الحصول عليه و حمايته والانتفاع به .

ثم ينفض العبد الصالح  يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه.

واختفى هذا العبد الصالح.. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.. إلا أن موسى تعلم من صحبته درسين مهمين:

تعلم ألا يغتر بعلمه الظاهري ، فهناك علم الحقيقة الخافية

وتعلم ألا يتجهم قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحزن والآلام والموت.

هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.
وكذلك يتطلب منا نحن البشر ان نستفيد ونتعلم ونتعظ  بتلك المواقف والظواهر  التى ظهرت في القصة .

ويكأن الله قد خلق وجعل في الارض عبادا له مرئيين وغير مرئيين  مهمتهم الاساسية الحفاظ والاشراف  على مخلوقاته الاخرى من الهلاك والظياع وغير ذلك  !
..له معقبات من بين يديه ومن خلفة يحفظونه من أمر الله ...

ويكأن  السفينة  ترمز الى مخلوق محدد ومعين بذاته  لانها ذكرت معرفة بال التعريف ، لم يقل الله ..حتى اذا ركبا في سفينة ...
بينما ذكر الله الغلام والجدار بدون أداة التعريف ..وكأن هناك غلمان عديدة وجدر عديدة تنطبق عليهم مثل تلكم الحالات !

لقد تأملت كثيرا في قصة مقتل الغلام وكيف جاز للعبد الصالح ان يقتل ويزهق ويميت  روحا ربانية من روح الله ، فالله هو  وحده الذي يحي ويميت كل مخلوقاته ..
فتبين لي واقتنعت بأن الغلام لعله خلق  مشلول ومعاق ، نتيجة اهمال او تصرفات خاطئة من قبل والديه ، فكانت مشيئة ورحمة الله ان يتوفى ذلك الغلام ويتم استبداله بغلام أخر صحيح من اجل راحته وكرم من الله للغلام ومن اجل ابويه ، وهناك  حالات عديدة  مماثلة موجودة مع بعض الناس في حياتهم الدنيا ..
وجملة ..لقيا غلام ..تدل على ان الغلام وجد ملقى او مرمي في قارعة الطريق او في محلات القمامات ..

لقد ذكر الله لنا ثلاث حالات فقط ، اثنتان منهما ظاهرهما فيهما العذاب وباطنهما فيهما الرحمة ، وأخرى واحدة ظاهرها الرحمة وباطنها الرحمة

ولمن يريد التوسع ومعرفة الغريب والعجيب عن قصة موسى والخضر ..فيمكنه زيارة موقع ..الدكتور رشيد الجراح ، قصة موسى باب العزير ...












الخميس، 9 مارس 2017

عشر رسائل من اجل فهم أفضل للقرآن الكريم ...


اسمحوا لي ان انقل اليكم هذه المعلومات المفيدة ..

عشر رسائل من أجل فهم أفضل للقرآن الكريم ..
  بواسطة  ،  مصطفى الحسـن  ...

القرآن الكريم هو سر خلود هذه الأمة وعامل نهضتها، وهذا متوقف على مدى الفهم الصحيح له، وفكرت كثيرا في كيفية عرض أفكار من شأنها أن تحسن فهمنا للقرآن الكريم، فآثرت أن أبسط الأفكار قدر الإمكان وأن أقسمها إلى عشر رسائل، أرجو أن تحقق الغرض منها.

الرسالة الأولى
أول كلمة نزلت (اقرأ)، والملاحظ أن المخاطب لم يكن قارئا بالمعنى المتبادر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (ما أنا بقارئ) لكن ليس هذا ما عناه جبريل عليه السلام ولذلك أعاد الأمر (اقرأ) حتى قال (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم).
ما معنى (اقرأ)؟
القراءة تتصل في الأساس بشيء مكتوب على ورق، لكن لا يشترط هذا دائما، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن من صدره والقرآن وصف فعله بالقراءة، فقد يقال لمن يقرأ من صدره قارئ، كما يقال أيضا للأعمى الذي يستمع لقراءة كتاب أنه قرأ الكتاب.
لكن هل يقال لمن يقرأ ولا يفهم (قارئ)، لو كان هذا صحيحا لاستمعت لقراءة كتاب بالفرنسية  أو الألمانية ثم قلت إني قرأت كذا وكذا من كتب اللغتين مع إني لا أجيد أيّا منهما!!
إذن لا يوصف القارئ بأنه (قارئ) إن لم يفهم، ونحن إن أطلقنا هذا الوصف بحسب استعمالنا المعاصر فهو استعمال فيه تجوز كبير، لكن حين نقرأ النصوص (اقرأ، فاقرؤوا ما تيسر منه) (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأهله..) فلا يمكن أن تتم القراءة هنا بمعزل عن الفهم، ولا تسمى قراءتنا للقرآن قراءة إن لم تتم بفهم لما نقرؤوه.
كيف نستطيع فهم الحديث (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)؟
لابد أن يكون المعيار هنا قابل للزيادة حتى تضاعف الحسنة، فلا يمكن أن يكون المراد الحفظ أو التجويد مثلا لأن له حد ينتهي عنده، لكن إذا اعتبرنا لزوم القراءة للفهم، فذلك يعني أن الفهم دائم ومستمر ولا نهائي، وبالتالي فالحسنات تضاعف بحسب الفهم والتدبر.
ما علاقة القراءة بـ (أفلا تعقلون، أفلا تدبرون…)؟ في الرسالة الثانية..

الرسالة الثانية
دعونا نتأمل في قراءة القرآن الكريم…
وردت عدة آيات تدعو إلى التعقل (افلا تعقلون) والتدبر (أفلا تدبرون) (أفلا يتدبرون القرآن)
وهي توضيح لمعنى الأمر بالقراءة (اقرأ)
التعقل: أي إعمال العقل في الآيات، فما هو العقل؟
 التعريفات كثيرة والعقل بمفهومه البسيط والواضح هو العقل الكلي وهو القادر على ربط الجزئيات بكلياتها، أي أنك تقرأ القرآن وأنت تربط جزئياته بالكليات فيتكون في ذهنك هرما تصاعديا حتى تصل إلى الغايات أو المقاصد ثم توحد بينها حتى تصل إلى المقاصد الكبرى.
في القرآن الكريم غايات مثل (الإنسان) (العمل الصالح) (الفساد) (الأمر يالمعروف والنهي عن المنكر) (الاستخلاف) (العدل) وجزئياتها وفروعها مبثوثة في قصص القرآن وسائر السور فإن استطعت أن تكون هرما ذهنيا وتوجد شبكة من العلاقات بين المعاني فذلك هو التعقل.
أما التدبر: فهو الوصول إلى دبر الشيء، وحين يطلق التدبر على نص من النصوص فالمراد أن تصل به إلى أقصى معانيه.
 في قراءتك الأولى سيتبادر إلى ذهنك معنى من المعاني ولنفترض أنه معنى صحيح، ستلاحظ أن المعنى يقودك إلى معنى آخر وهذا المعنى بدوره يقودك إلى معنى آخر وهكذا.. ومن إعجاز القرآن الكريم أنه لا تنفد معانيه، وكلما زادت معرفة القارئ بفنون اللغة العربية وفنون الحياة وزاد تأمله في النص القرآني تداعت معه المعاني أكثر وأغزر، ولذلك كان أحسن وصف لقراءة القرآن هو التدبر وقد جاء الأمر به صريحا (أفلا يتدبرون القرآن أن على قلوب أقفالها) ( أفلم يدبروا آياته) (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته).
بقيت ألفاظ أخرى مثل التفكر والتذكر والتلاوة… أتركها لكم لتبحثوا عنها.

الرسالة الثالثة:
لماذا أنزل القرآن؟
القرآن الكريم صريح وواضح في الغاية من نزوله، فحين تحدثت الآيات عن نزوله في شهر رمضان بينت الغاية (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) والآيات كثيرة (ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين).. والهداية: هي الطريق الموصل للغاية، ولكن أي طريق وأية غاية.
كان العوام سابقا إذا أرادوا فعل شيء أخذوا المصحف وفتحوه عشوائيا ثم ينظرون في أقرب آية يقع عليها البصر ويأخذون منها إشارة… ولا أدري هل مازال الناس يفعلون ذلك أم لا!
أذكر أن أحد الأساتذة الأكاديميين كان يتحدث عن القرآن الكريم وروى مقولة ابن مسعود رضي الله عنه (والله لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله) فشرح الكلام على ظاهره، قلت له: هل تعني أن ابن مسعود رضي الله عنه أراد أننا نستطيع من خلال فك رموز معينة  أن نعثر على ضالتنا الشخصية ؟  قال: نعم.
 في الحقيقة صمت ولم أعرف ما أقول لكني أدركت عمق المشكلة.
إذن حين نقول: الطريق الموصل إلى الغاية فمن المهم أن نعرف أية غاية؟
 إن القرآن الكريم كلام الله تعالى وهو يخاطب به العرب والعجم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الساعة، ولك أن تتخيل تاريخ وثقافات الشعوب وتطورها وتباينها ومع ذلك هي كلها مخاطبة بهذا الكتاب
 فهل من اللائق أن ننزل بمستوى القرآن إلى اهتماماتنا الشخصية؟
أعتقد أن القرآن جاء ليجيب عن الأسئلة الكبرى، عن قصة الكون وعن الإنسان وعن خالق الإنسان وعن طبيعة الحياة وعن الأرض وعن مهمتنا في هذه الحياة وعن علاقتنا بسائر العوالم (عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الملائكة والجن وعالم البرزخ وعالم الشهادة عن الإنسان والحيوان والنبات…) قد يعتقد البعض أن هذه الأسئلة من البديهيات لكني أعتقد خلاف ذلك، إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي الخطوة الأولى نحو بناء نموذج معرفي للإسلام في العصر الحديث، وإن تصوراتنا الخاطئة تجاه هذه القضايا الكبرى هي سبب الخلل في النموذج الحالي.
أما سائر الأمور في عالم الشهادة فقد تركها القرآن للخبرة البشرية، وللتراكم المعرفي، وللتثاقف بين الأمم.

الرسالة الرابعة
سأحاول الغوص قليلا في معنى هداية القرآن..
حين يتحدث القرآن الكريم عن عالم الغيب (وكذلك السنة الصحيحة) فإنه يريد الاستقصاء، أي أنه بين كل شيء نحتاج إلى معرفته ولا يجوز لنا الزيادة على ذلك، فالحديث عن الملائكة واليوم الآخر وغيرها أمور مقتصرة على ما ورد في الوحي ولا دخل للتجربة البشرية فيها، لكن حين يتحدث القرآن الكريم عن عالم الشهادة فماذا يريد أن يقول لنا؟
في القرآن الكريم إشارات علمية واضحة في علم الفلك والطب والاجتماع والإدارة وغيرها.
حين يذكر القرآن الكريم شيئا من هذه العلوم، فهل هو يذكر كل العلم أم يذكر أصوله أم يذكر بعضه أم يذكر أهم قضاياه؟
في الحقيقة إن هذا السؤال من أخطر و أصعب الأسئلة، ولا تكاد تجد له جوابا في الفكر الإسلامي المعاصر؟
وقد حاولت أن أضع معالم للجواب عسى أن يتبين شيء ما..
أولا: إن المساحة التي شغلتها العلوم في القرآن الكريم مختلفة، فالعلوم التطبيقية (الفلك والأحياء وغيرها…) هي الأقل، أما العلوم الإنسانية ( الاجتماع ، الانسان، النفس..) فهي الأكثر.
فنستطيع أن نرتبها كالتالي: جاء القرآن الكريم ليبين لنا ما نحتاجه من عالم الغيب وليجيب عن الأسئلة الكبرى فكانت لها المساحة والاهتمام الأكبر، ثم تحدث القرآن بمساحة أقل عن العلوم الإنسانية ثم بمساحة أقل عن العلوم التطبيقية.
لكن يبقى السؤال السابق: حين يذكر القرآن الكريم فرعا من فروع العلم أو أنموذجا فهل يريد:
أن يستقصي العلم؟ أو أن يذكر أصوله؟ أو أن يذكر مجرد نماذج؟
أعتقد يقينا أنه لم يرد استقصاء العلم، لأنه لو كان كذلك لكان النص القرآني يغني عن كل الاختراعات والاكتشافات، ويكفينا أن نقرأ القرآن لنكتشف  (الراديو) مثلا.
وأعتقد يقينا كذلك أنه لم يرد ذكر الأصول، لأنه لو كان كذلك للزم أن نجد أصلا لكل الاختراعات في القرآن الكريم، وأي شيء لا أصل له لا يعد إسلاميا.
لذلك أستطيع أن أقول إنه يذكر نماذج، لكن لماذا؟
مع اعترافي أن المسألة تحتاج لبحث أكثر لكني سأقول باختصار: لبيان المقاصد والأخلاقيات.
مثلا في السياسة ذكر القرآن مقاصد علم السياسة (العدل مثلا) وذكر الأخلاقيات (الصدق مثلا) لكنه لم يتعرض للآليات وتركها للتجربة الإنسانية.
مثال أخير: قصة يوسف عليه السلام حين أوّل رؤيا الملك بشأن السبع سنين والسبع الأخر العجاف والسنة الأخيرة، تجلت هنا حكمة وعبقرية إدارية ومالية وزراعية ليوسف عليه السلام.
 لماذا يذكر القرآن هذا الأنموذج؟ لبيان مقاصد هذه العلوم وأخلاقياتها، ولم يقصد أن يجعل من خطة يوسف أصلا من أصول الإدارة ولا أن يستقصي فروع الإدارة في فعله.

الرسالة الخامسة:
إذا كنا قد حددنا الغاية من القرآن (الهداية) فما هو موقع الإعجاز منها؟
جاء التحدي صريحا في القرآن (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) والآيات صريحة وواضحة.
والقرآن الكريم يجعل الهداية والإعجاز خطين متوازييين:
( ذلك الكتاب لاريب فيه) هذا هو الإعجاز، (هدى للمتقين) الهداية.
(وبالحق أنزلناه) الإعجاز، (وبالحق نزل) الهداية.
فالقرآن الكريم يحمل في داخله ما يثبت أنه كلام الله تعالى وليس كلاما مفترى عليه، وإذا آمن الإنسان بأن القرآن كلام الله فحينها سيقرأ القرآن بحثا عن هداياته.
فلابد أن يتخذ الإعجاز مكانه الطبيعي ولا يتجاوزه، وأنا أتحدث هنا بصراحة عن الإعجاز العلمي وعن المؤسسات المتبنية له، لا أشك أن الدلالات العلمية في القرآن الكريم بينة، لكن لابد أن أوضح أن القرآن لم ينزل كتابا في الفيزياء أو الأحياء أو غيرها، كان المهتمون يتحدثون عن 500 آية في الإعجاز العلمي واليوم تتحدث بعض المؤسسات عن 1200 آية، أي أقل من ربع القرآن قليلا، وأغرب التصريحات ما قاله أحد المختصين أن اللغة العربية هي قشرة القرآن أما جوهره فهو التفسير العلمي (أي وفق العلوم التطبيقية).
لكن المشكلة هنا أننا حين نأتي إلى قوله تعالى مثلا ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها …) الآيات، فنفسرها علميا، ونبين ما فيها من إعجاز، ثم نقف؟ نلاحظ أننا لم نفهم حتى الآن هداية الآيات.
 أنا أخشى أننا خرجنا بالقرآن عن مقصوده، وأننا نعطل 1200 آية عن هدايتها، إننا نعاني من تضخم في جهود الإعجاز مقابل الجهود الضئيلة في تفسير القرآن، ولك أن تحصي عدد المؤسسات والمجلات لتعرف الفرق.
وتحليلي لهذا الحماس والاندفاع تجاه الإعجاز العلمي:
أولا: الإخفاق الذي تعرضت له التيارات الإسلامية في مجالات كثيرة خصوصا العلمية، ثم النجاح في مجال الإعجاز العلمي، وإقبال الناس عليه وتحمسهم له مما أغرى الكثيرين بالانكباب عليه وتكثيف الجهود نحوه.
ثانيا: محاولة إقناع الغرب والمسلمين أيضا أن ديننا دين العلم وأنه لا تعارض عندنا بين النص والعقل، خصوصا في زمن صارت اللغة العلمية هي العليا، ومع إيماني العميق بأن الإسلام دين العلم وأنه النص والعقل متوافقان إلا أن الأمور لا تتم هكذا، فلا يمكن أن يقتنع الناس بذلك إلا إن شاهدوك تكتشف وتحلل وتستنتج النظريات، لا أن تنتظر الغرب ليصعد القمر ويكتشف ما تحت الأرض وما فوق السحاب ثم تقول انظروا إن قطعياتكم العلمية موجودة في القرآن والسنة!

الرسالة السادسة:
القرآن الكريم هو نص لغوين وإذا حاولنا تحليل أي نص من النصوص فإنا سنجد أنه يرتكز على ثلاثة أركان:
الأول: القائل.
الثاني: الوعاء الحاوي للنص.
الثالث: القارئ للنص.
وسأتحدث عن هذه الأركان الثلاثة باختصار في أكثر من رسالة.
الركن الأول: القائل.
 حين نتعرض لنص شعري  -للمتنبي مثلا-  ونحاول قراءته وفهمه فحينها سنستعرض المتنبي ونفسيته وفلسفته ورؤيته للحياة، وحتى نفهم من هو المتنبي سننظر في عصره من الناحية السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وأثر كل ذلك عليه، كل هذا سيساعدنا في فهم كلامه، لكن في حالة النص القرآني كيف سيكون الأمر؟
المتكلم هو الله تعالى، وهو الحي القيوم الذي له صفات الكمال وليس كمثله شيء، وهذا الشعور الرباني لابد أن يكون حاضرا أثناء قراءتنا للقرآن (قراءة الفهم)، فالله هو الذي يعلم الغيب ويعلم السر وأخفى ومن أصدق من الله حديثا، بل إن الله تعالى يجعل من ذاته الحقيقة الكبرى التي تتجلى من خلال القرآن الكريم، فلا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أنسى المتكلم (الله تعالى) وأنا أقرأ القرآن.
 وحين يخاطب القرآن الناس يخاطبهم جميعهم العرب وغير العرب، المعاصرين للنزول والذين من بعدهم إلى يوم الدين.
حين يكون المتكلم بشرا (المتنبي مثلا) فخطابه يصلح لزمانه وربما لأجيال بعده، ولكنه يتقادم بتقدم الأجيال حتى يصبح تراثا، يقال إن أكثر النصوص البشرية قدرة على اختراق الزمان لا تتجاوز الخمسمئة سنة! ذلك أن الإنسان خاضع لمعايير الزمان والمكان، لكن حين يكون المتكلم هو الخالق فكلامه متعال على الزمان والمكان
 لابد أن نعي هذا الفرق.
لكننا نلاحظ أيضا أن القرآن الكريم نزل في 23 سنة، أي أنه كان يراعي الزمان والمكان، وتحدثت بعض الآيات وبعض السور عن حوادث محددة، فسورة آل عمران تحدثت عن غزوة أحد وسورة الأنفال تحدثت عن غزوة بدر… ومثلها الأحزاب والنور والتوبة… وهكذا..
هنا نستطيع أن نفرق بين مرحلتين.
المرحلة الأولى: النبوة، وهي الـ23 سنة التي نزل فيها الوحي، وخصوصية هذه المرحلة في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عدم اكتمال الوحي حتى نزول آخر آية بل حتى وفاة النبي عليه الصلاة والسلام
المرحلة الثانية: ما بعد النبوة، وهي من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وميزتها أن القرآن الكريم أصبح كاملا ويقرأ بترتيب محدد (من الفاتحة إلى الناس) ويتغير الناس في حضاراتهم وثقافاتهم ويبقى القرآن الكريم كماهو صالح لكل الأجيال.
حين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء الجيل التالي (التابعون) فكروا في هذه المسألة، كيف ننتقل من مرحلة النبوة إلى ما بعد النبوة؟ أو بعبارة أخرى: إذا كان القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، فما هو التكييف لذلك؟
جاء الإمام الشافعي فكتب (الرسالة) وابتكر (القياس) وغيرها من طرق الاستدلال وهي محاولة فذة في تكييف صلاحية القرآن الكريم، وجاء الإمام مالك بفكرة عمل أهل المدينة التي تفعل في جوهرها المقاصد الشرعية واستمر العلم في التطور… ولابد أن يستمر السؤال ويبقى في الذهن: كيف ننتقل من مرحلة النبوة إلى ما بعد النبوة؟
أو كيف نجعل القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان؟
 أو في زماننا على الأقل؟

الرسالة السابعة:
قلت في الرسالة السابقة أن للنص ثلاثة أركان.
الأول: القائل. الثاني: الوعاء الحاوي للنص. الثالث: القارئ.
وتحدثت عن الركن الأول، وفي هذه الرسالة سأتحدث عن الركن الثاني.
الوعاء الذي يحوي النص القرآني هو اللغة العربية، والقرآن الكريم يحدثنا عن نفسه دائما بذلك (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) فهو نزل وفق قواعد اللغة العربية وفنونها، ثم يقول لنا (بلسان عربي مبين) واللسان هو اللغة الناتجة عن تفاعلها مع الثقافة، فنحن نلاحظ أن في كل عصر من العصور كلمات نشيطة أي كثيرة الاستعمال وكلمات خاملة أي قليلة الاستعمال، فقد كانت قريش ومن حولها يطلقون على السيف أكثر من مائة اسم لأنه عنصر رئيس في ثقافتهم، لكنهم كانوا يطلقون على كل أنواع الأسماك اسم الحوت لأنه ليس من ثقافتهم.
ومن أكثر الأمور وضوحا في القرآن الكريم أنه يحيل دائما إلى اللغة العربية في فهمه (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) وسبق أن تحدثت عن معنى التعقل، فبمعرفة اللغة يتحقق التعقل.
لذلك يتوقف فهم القارئ للقرآن على عمق فهمه للغة العربية، وأعني باللغة العربية هنا أمورا كثيرة منها قواعد النحو وفنون البلاغة، مثل المجاز والكناية والتشبيه وغيرها، ومنها معرفة معاني الألفاظ وكلما تعمق القارئ في اللفظ أكثر كلما زادت معرفته بالنص وفهم معاني الحروف ودلالاتها، ومنها ما يتعلق بفهم النصوص بشكل عام، فنصوص اللغة العربية نصوص تفهم وفق سياقها لذلك لا يصح أن ينتزع نص من سياقه في السورة ويفهم على حدة، ومنها مراعاة مصطلحات المتكلم، وهي هنا المصطلحات الشرعية مثل الصلاة، فالصلاة لغة تعني الدعاء لكنها في أغلب آيات القرآن الكريم تعني الصلاة التي هي أحد أركان الإسلام الخمس.
لذلك فالقاعدة الأولى والكبرى في فهم القرآن الكريم هي اللغة العربية.

الرسالة الثامنة
ما زلت أتحدث عن أركان النص الثلاثة (القائل والوعاء الحامل والقارئ)، وفي هذه الرسالة سأتم الحديث عن الركن الثالث: القارئ للنص.
يعتقد كثير من الناس أن المشكلة في الفهم الخاطئ للقرآن تكمن في عدم التجرد، ولو أننا تجردنا من كل المؤثرات ونظرنا في القرآن الكريم نظرة حيادية لاستطعنا أن نفهم مراد الله تعالى، ربما تكون الذاتية جزء من المشكلة لكنها ليست المشكلة كلها.
السؤال هنا: هل يستطيع الإنسان أن يتجرد من كل المؤثرات؟ لقد ولد كل منا في بيئة مختلفة عن الآخر، وعايش أجواء مختلفة، وقرأ وتعلم وجرب حتى تشكل وصار له عقله ورؤيته، هل من السهل أن ينفك عن كل هذا؟
أعتقد أن من خصائص الإنسان أنه مؤثر ومتأثر بكل ما يدور حوله، والمرحلة الوحيدة التي لا يكون الإنسان فيها متأثرا هي مرحلة الجنين، لكنه منذ أن يرى الحياة فإن الحياة تنقش عليه بصماتها، لذلك لا يمكننا الحديث عن الإنسان الخالي من الانطباعات أو الإنسان الجنيني، وإنما أنا أتحدث عن إنسان محدد وهو فلان بن فلان الذي عاش بطريقة معينة وتعرض لمؤثرات معينة وبالتالي تشكلت له رؤى محددة، وهذا التأثر بالواقع له إيجابيات متعددة، فنحن حين نقول إن القرآن الكريم متعالي على الزمان والمكان، فلابد حين نريد أن نجعله صالحا لكل زمان ومكان (زماننا مثلا) أن يقرأه إنسان متلبس بظروف الزمان والمكان… أليس كذلك.
أعتقد أن الإنسان لا بد أن يوغل في عصره حتى يتكون عقله وفق احتياجاته ثم يقرأ القرآن ليبحث عن الأجوبة، وبهذ التفاعل الثلاثي (القرآن، العقل، الواقع) سيصل القارئ إلى فهم أفضل.
ربما ندرك هنا مشكلة أخرى، حين يقرأ عالم جهبذ -في القرن الخامس مثلا- القرآن الكريم ويفسره، ونأتي نحن بدورنا فنجعل تفسيره هو البيان الصحيح للآيات عبر كل زمان، حين نفعل ذلك ألسنا نساوي بين كلام الله تعالى المتعالي على الزمان والمكان وبين كلام البشر؟ ألم يكن ذلك المفسر خاضعا لمؤثرات عصره؟
أليس من الأولى أن يفهم كل أهل عصر من العصور القرآن ليحققوا المعادلة الصحيحة من (النص، العقل، الواقع)؟
إن وعينا بهذه الأركان الثلاثة (القائل، الوعاء، القارئ) كفيل بأن يحسن قراءتنا للقرآن الكريم.

الرسالة التاسعة
القصص القرآني
عددت آيات القصص في القرآن الكريم فكانت قرابة الـ 2000 آية، أي أنني حين  أتحدث عن القصص القرآني فإني أتحدث عن ثلث القرآن الكريم، وهذا يعني أني إذا أحسنت التعامل مع قصص القرآن فإنني أستطيع فهم ثلث القرآن وإذا أسأت -والعياذ بالله- فإنني أسيء فهم ثلث القرآن كذلك، ومن هنا تأتي أهمية بناء تصور صحيح تجاه القصص القرآني.
كان العرب يروون التاريخ وفق قصص وأحداث متتالية ومتتابعة ومتداخلة وربما متناقضة، أي أن الوعي التاريخي لم يكن قد تشكل بعد، فالتاريخ هو أحاديث المجالس وأنس الليالي، ثم جاء القرآن الكريم وقص القصص وقال (نحن نقص عليك أحسن القصص) والأحسنية هنا مطلقة، فقصص القرآن هي الأحسن في المصداقية وهي الأحسن في العرض الفني وهي الأحسن في العظة والعبرة… الخ.
فمن الجانب التاريخي نلاحظ أن القرآن جاء بمنهج قصصي وتاريخي جديد، فهو يؤرخ للأفكار قبل الأحداث، لذلك لم يذكر لنا القرآن أحداث الأمم متتالية من عهد آدم إلى يومنا، بل هو يقفز زمنيا ويترك فجوات تاريخية هائلة وهو صريح في ذلك (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك)، بل لاحظ التركيز الجغرافي على منطقة الشرق الأوسط فلسنا نعرف تاريخ الأنبياء في أوربا والأمريكيتين والشرق الأقصى وغيرها..
خذ مثلا قصة موسى عليه السلام، يذكر لنا القرآن في أكثر من موضع قصة موسى في جبل الطور حين كلمه الله، وهي زمنيا لا تتجاوز الدقائق المعدودة، لكن القرآن لا يحدثنا أبدا عن فترة طفولة موسى (من بعد أن رجع إلى أمه حتى بلغ أشده) ولا عن فترة مكوثه في مدين عند الرجل الصالح.
وإذا تحدثنا عن المنهج الفني، فمن المعلوم أن المتكلم يستطيع أن يهمل أشياء ويركز على أشياء أخرى من خلال كلامه، فحين بقول لنا القرآن (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) ثم لا يذكر اسمهما فهو يريد أن يصرف العقل عن الاسم ويدخر طاقته لأمر آخر.
وكذلك حين يجمع قصة يوسف كاملة في سورة واحد ولا يذكر شيئا منها في سور أخرى على عكس قصة موسى عليه السلام، وتأتي سورة الكهف فتقص علينا ثلاث قصص تنفرد بها ولا تذكر في موضع آخر.
لكن العرب لم يفقهوا هذا الأمر، ولو أنهم فقهوا المنهج القرآني في التاريخ لكان  علم التاريخ عندنا اليوم سابقا الزمان والمكان، لكنهم عادوا وكتبوا القصص القرآني وتاريخ الأمم وفق الروايات والأحداث المتتابعة، حتى جاء ابن خلدون في القرن السابع الهجري وكتب مقدمته وتحدث عن القوانين الاجتماعية والسنن الإلهية، فالتقط شيئا من روعة القرآن، لكن العقل العربي تعرض لانتكاسة أخرى بعده..
وللموضوع بقية

الرسالة العاشرة
القصص القرآني 2
تحدثت في الرسالة السابقة عن أحسنية القصص القرآني، فما الذي منع المسلمين من إدراك هذه الأحسنية والإخلال بها؟
ما رأيك لو جاء مفسر وحاول ملأ الفجوات التاريخية في القرآن الكريم، فحدثنا عن طفولة موسى وعن فترة مكوثه في مدين وعن تفاصيل حياة يأجوج ومأجوج وأشكالهم ..؟ ما الذي يصنعه هذا المفسر بالتحديد؟
أقول بكل صراحة إنه تشويه للفهم وتغيير للمنهج القصصي في القرآن.
ويبدو أن هذا ما حدث.. كان بنو إسرائيل (اليهود والنصارى) في الجزيرة العربية أمة أمية تسيطر عليهم الخرافة والأسطورة وكانوا أشد جهلا من أهل الكتاب في الشام ومصر وأوربا، وكانوا يروون قصصا وخرافات عن أنبيائهم أخذوا أغلبها من المدراشيم (وهي شروح التوراة)، فكان بعض المسلمين يسألونهم عن هذه الفجوات التي يجدونها في القرآن (الأسماء، والأماكن والقصص الثانوية وتفاصيل الحياة… الخ)، فامتلأت الروايات بأقوالهم، ولأسباب كثيرة منها شغف العقل بمعرفة التفاصيل وعدم إدراك المنهج القرآني صار بعض الرواة يروي الإسرائيليات ويجعلها بجانب الآيات القرآنية، وفي عصر التدوين استطاع علماء الحديث بسبب التشدد في الرواية وميلهم إلى تقنين التصحيح والتضعيف  استطاعوا أن يقصوا الروايات الإسرائيلية عن كتبهم إلى حد كبير لكن كتب التفسير امتلأت بها.
يعتبر تفسير القرآن العظيم لابن كثير من أكثر التفاسير انتشارا خصوصا في السعودية ويعده الكثيرون من التفاسير المعتمدة خصوصا أن صاحبه إمام في الحديث فهو محقق ومدقق في الروايات، لقد عددت الروايات الإسرائيلية في تفسير ابن كثير وقارنتها بباقي الكتاب فبلغت الثلث، أي أن ثلث تفسير ابن كثير روايات إسرائيلية، فما بالك بالتفاسير التي يعد أصحابها من المتساهلين في رواية الإسرائيليات.
مشكلة الروايات الإسرائيلية أعقد مما يبدو بل إني أعتقد أن من أهم أسباب تشويه فهمنا للقرآن تلك الروايات
وها أنت ترى اليوم خطب الجمعة وبرامج الفضائيات تمتلئ بهذه الروايات مع أن الآية صريحة وواضحة في النهي عن التلقي عنهم (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا)،كانت وما زالت قصة أصحاب الكهف من الملاحم الدينية عند أهل الكتاب، ولهم روايات كثيرة في عددهم ووصفهم وحياتهم، فجاء القرآن ليبين القصة الحقيقية بأسلوبه ومنهجه، ثم قال لنا إن أهل الكتاب سيأتوننا بروايات (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم…) فما العمل (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) أي لا تجادلهم ولا تفاخرهم بروايتك فليس هذا هو الغرض من قص القصة،  (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) أي ولا تسألهم عن حال أصحاب الكهف.