الخميس، 9 مارس 2017

عشر رسائل من اجل فهم أفضل للقرآن الكريم ...


اسمحوا لي ان انقل اليكم هذه المعلومات المفيدة ..

عشر رسائل من أجل فهم أفضل للقرآن الكريم ..
  بواسطة  ،  مصطفى الحسـن  ...

القرآن الكريم هو سر خلود هذه الأمة وعامل نهضتها، وهذا متوقف على مدى الفهم الصحيح له، وفكرت كثيرا في كيفية عرض أفكار من شأنها أن تحسن فهمنا للقرآن الكريم، فآثرت أن أبسط الأفكار قدر الإمكان وأن أقسمها إلى عشر رسائل، أرجو أن تحقق الغرض منها.

الرسالة الأولى
أول كلمة نزلت (اقرأ)، والملاحظ أن المخاطب لم يكن قارئا بالمعنى المتبادر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (ما أنا بقارئ) لكن ليس هذا ما عناه جبريل عليه السلام ولذلك أعاد الأمر (اقرأ) حتى قال (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم).
ما معنى (اقرأ)؟
القراءة تتصل في الأساس بشيء مكتوب على ورق، لكن لا يشترط هذا دائما، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن من صدره والقرآن وصف فعله بالقراءة، فقد يقال لمن يقرأ من صدره قارئ، كما يقال أيضا للأعمى الذي يستمع لقراءة كتاب أنه قرأ الكتاب.
لكن هل يقال لمن يقرأ ولا يفهم (قارئ)، لو كان هذا صحيحا لاستمعت لقراءة كتاب بالفرنسية  أو الألمانية ثم قلت إني قرأت كذا وكذا من كتب اللغتين مع إني لا أجيد أيّا منهما!!
إذن لا يوصف القارئ بأنه (قارئ) إن لم يفهم، ونحن إن أطلقنا هذا الوصف بحسب استعمالنا المعاصر فهو استعمال فيه تجوز كبير، لكن حين نقرأ النصوص (اقرأ، فاقرؤوا ما تيسر منه) (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأهله..) فلا يمكن أن تتم القراءة هنا بمعزل عن الفهم، ولا تسمى قراءتنا للقرآن قراءة إن لم تتم بفهم لما نقرؤوه.
كيف نستطيع فهم الحديث (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)؟
لابد أن يكون المعيار هنا قابل للزيادة حتى تضاعف الحسنة، فلا يمكن أن يكون المراد الحفظ أو التجويد مثلا لأن له حد ينتهي عنده، لكن إذا اعتبرنا لزوم القراءة للفهم، فذلك يعني أن الفهم دائم ومستمر ولا نهائي، وبالتالي فالحسنات تضاعف بحسب الفهم والتدبر.
ما علاقة القراءة بـ (أفلا تعقلون، أفلا تدبرون…)؟ في الرسالة الثانية..

الرسالة الثانية
دعونا نتأمل في قراءة القرآن الكريم…
وردت عدة آيات تدعو إلى التعقل (افلا تعقلون) والتدبر (أفلا تدبرون) (أفلا يتدبرون القرآن)
وهي توضيح لمعنى الأمر بالقراءة (اقرأ)
التعقل: أي إعمال العقل في الآيات، فما هو العقل؟
 التعريفات كثيرة والعقل بمفهومه البسيط والواضح هو العقل الكلي وهو القادر على ربط الجزئيات بكلياتها، أي أنك تقرأ القرآن وأنت تربط جزئياته بالكليات فيتكون في ذهنك هرما تصاعديا حتى تصل إلى الغايات أو المقاصد ثم توحد بينها حتى تصل إلى المقاصد الكبرى.
في القرآن الكريم غايات مثل (الإنسان) (العمل الصالح) (الفساد) (الأمر يالمعروف والنهي عن المنكر) (الاستخلاف) (العدل) وجزئياتها وفروعها مبثوثة في قصص القرآن وسائر السور فإن استطعت أن تكون هرما ذهنيا وتوجد شبكة من العلاقات بين المعاني فذلك هو التعقل.
أما التدبر: فهو الوصول إلى دبر الشيء، وحين يطلق التدبر على نص من النصوص فالمراد أن تصل به إلى أقصى معانيه.
 في قراءتك الأولى سيتبادر إلى ذهنك معنى من المعاني ولنفترض أنه معنى صحيح، ستلاحظ أن المعنى يقودك إلى معنى آخر وهذا المعنى بدوره يقودك إلى معنى آخر وهكذا.. ومن إعجاز القرآن الكريم أنه لا تنفد معانيه، وكلما زادت معرفة القارئ بفنون اللغة العربية وفنون الحياة وزاد تأمله في النص القرآني تداعت معه المعاني أكثر وأغزر، ولذلك كان أحسن وصف لقراءة القرآن هو التدبر وقد جاء الأمر به صريحا (أفلا يتدبرون القرآن أن على قلوب أقفالها) ( أفلم يدبروا آياته) (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته).
بقيت ألفاظ أخرى مثل التفكر والتذكر والتلاوة… أتركها لكم لتبحثوا عنها.

الرسالة الثالثة:
لماذا أنزل القرآن؟
القرآن الكريم صريح وواضح في الغاية من نزوله، فحين تحدثت الآيات عن نزوله في شهر رمضان بينت الغاية (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) والآيات كثيرة (ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين).. والهداية: هي الطريق الموصل للغاية، ولكن أي طريق وأية غاية.
كان العوام سابقا إذا أرادوا فعل شيء أخذوا المصحف وفتحوه عشوائيا ثم ينظرون في أقرب آية يقع عليها البصر ويأخذون منها إشارة… ولا أدري هل مازال الناس يفعلون ذلك أم لا!
أذكر أن أحد الأساتذة الأكاديميين كان يتحدث عن القرآن الكريم وروى مقولة ابن مسعود رضي الله عنه (والله لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله) فشرح الكلام على ظاهره، قلت له: هل تعني أن ابن مسعود رضي الله عنه أراد أننا نستطيع من خلال فك رموز معينة  أن نعثر على ضالتنا الشخصية ؟  قال: نعم.
 في الحقيقة صمت ولم أعرف ما أقول لكني أدركت عمق المشكلة.
إذن حين نقول: الطريق الموصل إلى الغاية فمن المهم أن نعرف أية غاية؟
 إن القرآن الكريم كلام الله تعالى وهو يخاطب به العرب والعجم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الساعة، ولك أن تتخيل تاريخ وثقافات الشعوب وتطورها وتباينها ومع ذلك هي كلها مخاطبة بهذا الكتاب
 فهل من اللائق أن ننزل بمستوى القرآن إلى اهتماماتنا الشخصية؟
أعتقد أن القرآن جاء ليجيب عن الأسئلة الكبرى، عن قصة الكون وعن الإنسان وعن خالق الإنسان وعن طبيعة الحياة وعن الأرض وعن مهمتنا في هذه الحياة وعن علاقتنا بسائر العوالم (عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الملائكة والجن وعالم البرزخ وعالم الشهادة عن الإنسان والحيوان والنبات…) قد يعتقد البعض أن هذه الأسئلة من البديهيات لكني أعتقد خلاف ذلك، إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي الخطوة الأولى نحو بناء نموذج معرفي للإسلام في العصر الحديث، وإن تصوراتنا الخاطئة تجاه هذه القضايا الكبرى هي سبب الخلل في النموذج الحالي.
أما سائر الأمور في عالم الشهادة فقد تركها القرآن للخبرة البشرية، وللتراكم المعرفي، وللتثاقف بين الأمم.

الرسالة الرابعة
سأحاول الغوص قليلا في معنى هداية القرآن..
حين يتحدث القرآن الكريم عن عالم الغيب (وكذلك السنة الصحيحة) فإنه يريد الاستقصاء، أي أنه بين كل شيء نحتاج إلى معرفته ولا يجوز لنا الزيادة على ذلك، فالحديث عن الملائكة واليوم الآخر وغيرها أمور مقتصرة على ما ورد في الوحي ولا دخل للتجربة البشرية فيها، لكن حين يتحدث القرآن الكريم عن عالم الشهادة فماذا يريد أن يقول لنا؟
في القرآن الكريم إشارات علمية واضحة في علم الفلك والطب والاجتماع والإدارة وغيرها.
حين يذكر القرآن الكريم شيئا من هذه العلوم، فهل هو يذكر كل العلم أم يذكر أصوله أم يذكر بعضه أم يذكر أهم قضاياه؟
في الحقيقة إن هذا السؤال من أخطر و أصعب الأسئلة، ولا تكاد تجد له جوابا في الفكر الإسلامي المعاصر؟
وقد حاولت أن أضع معالم للجواب عسى أن يتبين شيء ما..
أولا: إن المساحة التي شغلتها العلوم في القرآن الكريم مختلفة، فالعلوم التطبيقية (الفلك والأحياء وغيرها…) هي الأقل، أما العلوم الإنسانية ( الاجتماع ، الانسان، النفس..) فهي الأكثر.
فنستطيع أن نرتبها كالتالي: جاء القرآن الكريم ليبين لنا ما نحتاجه من عالم الغيب وليجيب عن الأسئلة الكبرى فكانت لها المساحة والاهتمام الأكبر، ثم تحدث القرآن بمساحة أقل عن العلوم الإنسانية ثم بمساحة أقل عن العلوم التطبيقية.
لكن يبقى السؤال السابق: حين يذكر القرآن الكريم فرعا من فروع العلم أو أنموذجا فهل يريد:
أن يستقصي العلم؟ أو أن يذكر أصوله؟ أو أن يذكر مجرد نماذج؟
أعتقد يقينا أنه لم يرد استقصاء العلم، لأنه لو كان كذلك لكان النص القرآني يغني عن كل الاختراعات والاكتشافات، ويكفينا أن نقرأ القرآن لنكتشف  (الراديو) مثلا.
وأعتقد يقينا كذلك أنه لم يرد ذكر الأصول، لأنه لو كان كذلك للزم أن نجد أصلا لكل الاختراعات في القرآن الكريم، وأي شيء لا أصل له لا يعد إسلاميا.
لذلك أستطيع أن أقول إنه يذكر نماذج، لكن لماذا؟
مع اعترافي أن المسألة تحتاج لبحث أكثر لكني سأقول باختصار: لبيان المقاصد والأخلاقيات.
مثلا في السياسة ذكر القرآن مقاصد علم السياسة (العدل مثلا) وذكر الأخلاقيات (الصدق مثلا) لكنه لم يتعرض للآليات وتركها للتجربة الإنسانية.
مثال أخير: قصة يوسف عليه السلام حين أوّل رؤيا الملك بشأن السبع سنين والسبع الأخر العجاف والسنة الأخيرة، تجلت هنا حكمة وعبقرية إدارية ومالية وزراعية ليوسف عليه السلام.
 لماذا يذكر القرآن هذا الأنموذج؟ لبيان مقاصد هذه العلوم وأخلاقياتها، ولم يقصد أن يجعل من خطة يوسف أصلا من أصول الإدارة ولا أن يستقصي فروع الإدارة في فعله.

الرسالة الخامسة:
إذا كنا قد حددنا الغاية من القرآن (الهداية) فما هو موقع الإعجاز منها؟
جاء التحدي صريحا في القرآن (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) والآيات صريحة وواضحة.
والقرآن الكريم يجعل الهداية والإعجاز خطين متوازييين:
( ذلك الكتاب لاريب فيه) هذا هو الإعجاز، (هدى للمتقين) الهداية.
(وبالحق أنزلناه) الإعجاز، (وبالحق نزل) الهداية.
فالقرآن الكريم يحمل في داخله ما يثبت أنه كلام الله تعالى وليس كلاما مفترى عليه، وإذا آمن الإنسان بأن القرآن كلام الله فحينها سيقرأ القرآن بحثا عن هداياته.
فلابد أن يتخذ الإعجاز مكانه الطبيعي ولا يتجاوزه، وأنا أتحدث هنا بصراحة عن الإعجاز العلمي وعن المؤسسات المتبنية له، لا أشك أن الدلالات العلمية في القرآن الكريم بينة، لكن لابد أن أوضح أن القرآن لم ينزل كتابا في الفيزياء أو الأحياء أو غيرها، كان المهتمون يتحدثون عن 500 آية في الإعجاز العلمي واليوم تتحدث بعض المؤسسات عن 1200 آية، أي أقل من ربع القرآن قليلا، وأغرب التصريحات ما قاله أحد المختصين أن اللغة العربية هي قشرة القرآن أما جوهره فهو التفسير العلمي (أي وفق العلوم التطبيقية).
لكن المشكلة هنا أننا حين نأتي إلى قوله تعالى مثلا ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها …) الآيات، فنفسرها علميا، ونبين ما فيها من إعجاز، ثم نقف؟ نلاحظ أننا لم نفهم حتى الآن هداية الآيات.
 أنا أخشى أننا خرجنا بالقرآن عن مقصوده، وأننا نعطل 1200 آية عن هدايتها، إننا نعاني من تضخم في جهود الإعجاز مقابل الجهود الضئيلة في تفسير القرآن، ولك أن تحصي عدد المؤسسات والمجلات لتعرف الفرق.
وتحليلي لهذا الحماس والاندفاع تجاه الإعجاز العلمي:
أولا: الإخفاق الذي تعرضت له التيارات الإسلامية في مجالات كثيرة خصوصا العلمية، ثم النجاح في مجال الإعجاز العلمي، وإقبال الناس عليه وتحمسهم له مما أغرى الكثيرين بالانكباب عليه وتكثيف الجهود نحوه.
ثانيا: محاولة إقناع الغرب والمسلمين أيضا أن ديننا دين العلم وأنه لا تعارض عندنا بين النص والعقل، خصوصا في زمن صارت اللغة العلمية هي العليا، ومع إيماني العميق بأن الإسلام دين العلم وأنه النص والعقل متوافقان إلا أن الأمور لا تتم هكذا، فلا يمكن أن يقتنع الناس بذلك إلا إن شاهدوك تكتشف وتحلل وتستنتج النظريات، لا أن تنتظر الغرب ليصعد القمر ويكتشف ما تحت الأرض وما فوق السحاب ثم تقول انظروا إن قطعياتكم العلمية موجودة في القرآن والسنة!

الرسالة السادسة:
القرآن الكريم هو نص لغوين وإذا حاولنا تحليل أي نص من النصوص فإنا سنجد أنه يرتكز على ثلاثة أركان:
الأول: القائل.
الثاني: الوعاء الحاوي للنص.
الثالث: القارئ للنص.
وسأتحدث عن هذه الأركان الثلاثة باختصار في أكثر من رسالة.
الركن الأول: القائل.
 حين نتعرض لنص شعري  -للمتنبي مثلا-  ونحاول قراءته وفهمه فحينها سنستعرض المتنبي ونفسيته وفلسفته ورؤيته للحياة، وحتى نفهم من هو المتنبي سننظر في عصره من الناحية السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وأثر كل ذلك عليه، كل هذا سيساعدنا في فهم كلامه، لكن في حالة النص القرآني كيف سيكون الأمر؟
المتكلم هو الله تعالى، وهو الحي القيوم الذي له صفات الكمال وليس كمثله شيء، وهذا الشعور الرباني لابد أن يكون حاضرا أثناء قراءتنا للقرآن (قراءة الفهم)، فالله هو الذي يعلم الغيب ويعلم السر وأخفى ومن أصدق من الله حديثا، بل إن الله تعالى يجعل من ذاته الحقيقة الكبرى التي تتجلى من خلال القرآن الكريم، فلا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أنسى المتكلم (الله تعالى) وأنا أقرأ القرآن.
 وحين يخاطب القرآن الناس يخاطبهم جميعهم العرب وغير العرب، المعاصرين للنزول والذين من بعدهم إلى يوم الدين.
حين يكون المتكلم بشرا (المتنبي مثلا) فخطابه يصلح لزمانه وربما لأجيال بعده، ولكنه يتقادم بتقدم الأجيال حتى يصبح تراثا، يقال إن أكثر النصوص البشرية قدرة على اختراق الزمان لا تتجاوز الخمسمئة سنة! ذلك أن الإنسان خاضع لمعايير الزمان والمكان، لكن حين يكون المتكلم هو الخالق فكلامه متعال على الزمان والمكان
 لابد أن نعي هذا الفرق.
لكننا نلاحظ أيضا أن القرآن الكريم نزل في 23 سنة، أي أنه كان يراعي الزمان والمكان، وتحدثت بعض الآيات وبعض السور عن حوادث محددة، فسورة آل عمران تحدثت عن غزوة أحد وسورة الأنفال تحدثت عن غزوة بدر… ومثلها الأحزاب والنور والتوبة… وهكذا..
هنا نستطيع أن نفرق بين مرحلتين.
المرحلة الأولى: النبوة، وهي الـ23 سنة التي نزل فيها الوحي، وخصوصية هذه المرحلة في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عدم اكتمال الوحي حتى نزول آخر آية بل حتى وفاة النبي عليه الصلاة والسلام
المرحلة الثانية: ما بعد النبوة، وهي من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وميزتها أن القرآن الكريم أصبح كاملا ويقرأ بترتيب محدد (من الفاتحة إلى الناس) ويتغير الناس في حضاراتهم وثقافاتهم ويبقى القرآن الكريم كماهو صالح لكل الأجيال.
حين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء الجيل التالي (التابعون) فكروا في هذه المسألة، كيف ننتقل من مرحلة النبوة إلى ما بعد النبوة؟ أو بعبارة أخرى: إذا كان القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، فما هو التكييف لذلك؟
جاء الإمام الشافعي فكتب (الرسالة) وابتكر (القياس) وغيرها من طرق الاستدلال وهي محاولة فذة في تكييف صلاحية القرآن الكريم، وجاء الإمام مالك بفكرة عمل أهل المدينة التي تفعل في جوهرها المقاصد الشرعية واستمر العلم في التطور… ولابد أن يستمر السؤال ويبقى في الذهن: كيف ننتقل من مرحلة النبوة إلى ما بعد النبوة؟
أو كيف نجعل القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان؟
 أو في زماننا على الأقل؟

الرسالة السابعة:
قلت في الرسالة السابقة أن للنص ثلاثة أركان.
الأول: القائل. الثاني: الوعاء الحاوي للنص. الثالث: القارئ.
وتحدثت عن الركن الأول، وفي هذه الرسالة سأتحدث عن الركن الثاني.
الوعاء الذي يحوي النص القرآني هو اللغة العربية، والقرآن الكريم يحدثنا عن نفسه دائما بذلك (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) فهو نزل وفق قواعد اللغة العربية وفنونها، ثم يقول لنا (بلسان عربي مبين) واللسان هو اللغة الناتجة عن تفاعلها مع الثقافة، فنحن نلاحظ أن في كل عصر من العصور كلمات نشيطة أي كثيرة الاستعمال وكلمات خاملة أي قليلة الاستعمال، فقد كانت قريش ومن حولها يطلقون على السيف أكثر من مائة اسم لأنه عنصر رئيس في ثقافتهم، لكنهم كانوا يطلقون على كل أنواع الأسماك اسم الحوت لأنه ليس من ثقافتهم.
ومن أكثر الأمور وضوحا في القرآن الكريم أنه يحيل دائما إلى اللغة العربية في فهمه (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) وسبق أن تحدثت عن معنى التعقل، فبمعرفة اللغة يتحقق التعقل.
لذلك يتوقف فهم القارئ للقرآن على عمق فهمه للغة العربية، وأعني باللغة العربية هنا أمورا كثيرة منها قواعد النحو وفنون البلاغة، مثل المجاز والكناية والتشبيه وغيرها، ومنها معرفة معاني الألفاظ وكلما تعمق القارئ في اللفظ أكثر كلما زادت معرفته بالنص وفهم معاني الحروف ودلالاتها، ومنها ما يتعلق بفهم النصوص بشكل عام، فنصوص اللغة العربية نصوص تفهم وفق سياقها لذلك لا يصح أن ينتزع نص من سياقه في السورة ويفهم على حدة، ومنها مراعاة مصطلحات المتكلم، وهي هنا المصطلحات الشرعية مثل الصلاة، فالصلاة لغة تعني الدعاء لكنها في أغلب آيات القرآن الكريم تعني الصلاة التي هي أحد أركان الإسلام الخمس.
لذلك فالقاعدة الأولى والكبرى في فهم القرآن الكريم هي اللغة العربية.

الرسالة الثامنة
ما زلت أتحدث عن أركان النص الثلاثة (القائل والوعاء الحامل والقارئ)، وفي هذه الرسالة سأتم الحديث عن الركن الثالث: القارئ للنص.
يعتقد كثير من الناس أن المشكلة في الفهم الخاطئ للقرآن تكمن في عدم التجرد، ولو أننا تجردنا من كل المؤثرات ونظرنا في القرآن الكريم نظرة حيادية لاستطعنا أن نفهم مراد الله تعالى، ربما تكون الذاتية جزء من المشكلة لكنها ليست المشكلة كلها.
السؤال هنا: هل يستطيع الإنسان أن يتجرد من كل المؤثرات؟ لقد ولد كل منا في بيئة مختلفة عن الآخر، وعايش أجواء مختلفة، وقرأ وتعلم وجرب حتى تشكل وصار له عقله ورؤيته، هل من السهل أن ينفك عن كل هذا؟
أعتقد أن من خصائص الإنسان أنه مؤثر ومتأثر بكل ما يدور حوله، والمرحلة الوحيدة التي لا يكون الإنسان فيها متأثرا هي مرحلة الجنين، لكنه منذ أن يرى الحياة فإن الحياة تنقش عليه بصماتها، لذلك لا يمكننا الحديث عن الإنسان الخالي من الانطباعات أو الإنسان الجنيني، وإنما أنا أتحدث عن إنسان محدد وهو فلان بن فلان الذي عاش بطريقة معينة وتعرض لمؤثرات معينة وبالتالي تشكلت له رؤى محددة، وهذا التأثر بالواقع له إيجابيات متعددة، فنحن حين نقول إن القرآن الكريم متعالي على الزمان والمكان، فلابد حين نريد أن نجعله صالحا لكل زمان ومكان (زماننا مثلا) أن يقرأه إنسان متلبس بظروف الزمان والمكان… أليس كذلك.
أعتقد أن الإنسان لا بد أن يوغل في عصره حتى يتكون عقله وفق احتياجاته ثم يقرأ القرآن ليبحث عن الأجوبة، وبهذ التفاعل الثلاثي (القرآن، العقل، الواقع) سيصل القارئ إلى فهم أفضل.
ربما ندرك هنا مشكلة أخرى، حين يقرأ عالم جهبذ -في القرن الخامس مثلا- القرآن الكريم ويفسره، ونأتي نحن بدورنا فنجعل تفسيره هو البيان الصحيح للآيات عبر كل زمان، حين نفعل ذلك ألسنا نساوي بين كلام الله تعالى المتعالي على الزمان والمكان وبين كلام البشر؟ ألم يكن ذلك المفسر خاضعا لمؤثرات عصره؟
أليس من الأولى أن يفهم كل أهل عصر من العصور القرآن ليحققوا المعادلة الصحيحة من (النص، العقل، الواقع)؟
إن وعينا بهذه الأركان الثلاثة (القائل، الوعاء، القارئ) كفيل بأن يحسن قراءتنا للقرآن الكريم.

الرسالة التاسعة
القصص القرآني
عددت آيات القصص في القرآن الكريم فكانت قرابة الـ 2000 آية، أي أنني حين  أتحدث عن القصص القرآني فإني أتحدث عن ثلث القرآن الكريم، وهذا يعني أني إذا أحسنت التعامل مع قصص القرآن فإنني أستطيع فهم ثلث القرآن وإذا أسأت -والعياذ بالله- فإنني أسيء فهم ثلث القرآن كذلك، ومن هنا تأتي أهمية بناء تصور صحيح تجاه القصص القرآني.
كان العرب يروون التاريخ وفق قصص وأحداث متتالية ومتتابعة ومتداخلة وربما متناقضة، أي أن الوعي التاريخي لم يكن قد تشكل بعد، فالتاريخ هو أحاديث المجالس وأنس الليالي، ثم جاء القرآن الكريم وقص القصص وقال (نحن نقص عليك أحسن القصص) والأحسنية هنا مطلقة، فقصص القرآن هي الأحسن في المصداقية وهي الأحسن في العرض الفني وهي الأحسن في العظة والعبرة… الخ.
فمن الجانب التاريخي نلاحظ أن القرآن جاء بمنهج قصصي وتاريخي جديد، فهو يؤرخ للأفكار قبل الأحداث، لذلك لم يذكر لنا القرآن أحداث الأمم متتالية من عهد آدم إلى يومنا، بل هو يقفز زمنيا ويترك فجوات تاريخية هائلة وهو صريح في ذلك (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك)، بل لاحظ التركيز الجغرافي على منطقة الشرق الأوسط فلسنا نعرف تاريخ الأنبياء في أوربا والأمريكيتين والشرق الأقصى وغيرها..
خذ مثلا قصة موسى عليه السلام، يذكر لنا القرآن في أكثر من موضع قصة موسى في جبل الطور حين كلمه الله، وهي زمنيا لا تتجاوز الدقائق المعدودة، لكن القرآن لا يحدثنا أبدا عن فترة طفولة موسى (من بعد أن رجع إلى أمه حتى بلغ أشده) ولا عن فترة مكوثه في مدين عند الرجل الصالح.
وإذا تحدثنا عن المنهج الفني، فمن المعلوم أن المتكلم يستطيع أن يهمل أشياء ويركز على أشياء أخرى من خلال كلامه، فحين بقول لنا القرآن (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) ثم لا يذكر اسمهما فهو يريد أن يصرف العقل عن الاسم ويدخر طاقته لأمر آخر.
وكذلك حين يجمع قصة يوسف كاملة في سورة واحد ولا يذكر شيئا منها في سور أخرى على عكس قصة موسى عليه السلام، وتأتي سورة الكهف فتقص علينا ثلاث قصص تنفرد بها ولا تذكر في موضع آخر.
لكن العرب لم يفقهوا هذا الأمر، ولو أنهم فقهوا المنهج القرآني في التاريخ لكان  علم التاريخ عندنا اليوم سابقا الزمان والمكان، لكنهم عادوا وكتبوا القصص القرآني وتاريخ الأمم وفق الروايات والأحداث المتتابعة، حتى جاء ابن خلدون في القرن السابع الهجري وكتب مقدمته وتحدث عن القوانين الاجتماعية والسنن الإلهية، فالتقط شيئا من روعة القرآن، لكن العقل العربي تعرض لانتكاسة أخرى بعده..
وللموضوع بقية

الرسالة العاشرة
القصص القرآني 2
تحدثت في الرسالة السابقة عن أحسنية القصص القرآني، فما الذي منع المسلمين من إدراك هذه الأحسنية والإخلال بها؟
ما رأيك لو جاء مفسر وحاول ملأ الفجوات التاريخية في القرآن الكريم، فحدثنا عن طفولة موسى وعن فترة مكوثه في مدين وعن تفاصيل حياة يأجوج ومأجوج وأشكالهم ..؟ ما الذي يصنعه هذا المفسر بالتحديد؟
أقول بكل صراحة إنه تشويه للفهم وتغيير للمنهج القصصي في القرآن.
ويبدو أن هذا ما حدث.. كان بنو إسرائيل (اليهود والنصارى) في الجزيرة العربية أمة أمية تسيطر عليهم الخرافة والأسطورة وكانوا أشد جهلا من أهل الكتاب في الشام ومصر وأوربا، وكانوا يروون قصصا وخرافات عن أنبيائهم أخذوا أغلبها من المدراشيم (وهي شروح التوراة)، فكان بعض المسلمين يسألونهم عن هذه الفجوات التي يجدونها في القرآن (الأسماء، والأماكن والقصص الثانوية وتفاصيل الحياة… الخ)، فامتلأت الروايات بأقوالهم، ولأسباب كثيرة منها شغف العقل بمعرفة التفاصيل وعدم إدراك المنهج القرآني صار بعض الرواة يروي الإسرائيليات ويجعلها بجانب الآيات القرآنية، وفي عصر التدوين استطاع علماء الحديث بسبب التشدد في الرواية وميلهم إلى تقنين التصحيح والتضعيف  استطاعوا أن يقصوا الروايات الإسرائيلية عن كتبهم إلى حد كبير لكن كتب التفسير امتلأت بها.
يعتبر تفسير القرآن العظيم لابن كثير من أكثر التفاسير انتشارا خصوصا في السعودية ويعده الكثيرون من التفاسير المعتمدة خصوصا أن صاحبه إمام في الحديث فهو محقق ومدقق في الروايات، لقد عددت الروايات الإسرائيلية في تفسير ابن كثير وقارنتها بباقي الكتاب فبلغت الثلث، أي أن ثلث تفسير ابن كثير روايات إسرائيلية، فما بالك بالتفاسير التي يعد أصحابها من المتساهلين في رواية الإسرائيليات.
مشكلة الروايات الإسرائيلية أعقد مما يبدو بل إني أعتقد أن من أهم أسباب تشويه فهمنا للقرآن تلك الروايات
وها أنت ترى اليوم خطب الجمعة وبرامج الفضائيات تمتلئ بهذه الروايات مع أن الآية صريحة وواضحة في النهي عن التلقي عنهم (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا)،كانت وما زالت قصة أصحاب الكهف من الملاحم الدينية عند أهل الكتاب، ولهم روايات كثيرة في عددهم ووصفهم وحياتهم، فجاء القرآن ليبين القصة الحقيقية بأسلوبه ومنهجه، ثم قال لنا إن أهل الكتاب سيأتوننا بروايات (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم…) فما العمل (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) أي لا تجادلهم ولا تفاخرهم بروايتك فليس هذا هو الغرض من قص القصة،  (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) أي ولا تسألهم عن حال أصحاب الكهف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق