: "رحلة الشتاء والصيف" في سورة قريش: رزقٌ من وفود الحجيج لا من رحلات التجارة؟
مقدمة: سورة قريش من السور القصيرة لكنها غنية بالدلالات. فهي تُظهر فضل الله العظيم على أهل مكة، وتسرد مظاهر من هذا الفضل، منها الإطعام من الجوع والأمن من الخوف، ثم تذكر "رحلة الشتاء والصيف". فما المقصود بهذه الرحلة؟ وهل كانت فعلاً رحلات تجارية كما في التفسير السائد؟ أم أن فيها دلالة أعمق على وفود الحجيج والمعتمرين إلى مكة؟
أولاً: السياق يركّز على أهل مكة لا غيرهم
من الواضح أن الآيات تتحدث عن نِعَمٍ خالصة أنعم الله بها على أهل مكة تحديداً. ولا يبدو منطقيًا أن تكون الآيات تشير إلى رحلاتهم للتجارة في اليمن والشام، لأن الفائدة الاقتصادية الكبرى في هذه الحالة كانت ستعود على أهل تلك المناطق أكثر من أهل مكة أنفسهم.
ثانيًا: تفسير جديد لمعنى "رحلة الشتاء والصيف"
يقترح هذا التحليل فهماً جديدًا: أن "رحلة الشتاء والصيف" هي إشارة إلى وفود الناس إلى مكة للحج والعمرة في موسمين مختلفين – موسم العمرة في الشتاء، وموسم الحج في الصيف غالبًا. وهذا التوافد الموسمي جلب معه منافع اقتصادية ضخمة، حيث نشطت التجارة والخدمات، فتوفرت الأموال والطعام لأهل مكة، واستغنوا بذلك عن مشقة الأسفار التجارية الطويلة.
ثالثًا: دعم هذا الفهم من سياق السورة
"لإيلاف قريش": أي لتعودهم وارتباطهم بهذا النمط المريح من الرزق.
"إيلافهم رحلة الشتاء والصيف": أي تألفهم وانتفاعهم بمواسم الحج والعمرة التي تدر عليهم الرزق الموسمي.
"فليعبدوا رب هذا البيت": يشير إلى أن هذه النعمة كانت بسبب قدسية البيت، الذي جعله الله مقصدًا للناس من كل فج، فجلب معهم الأمن والرزق.
"الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف": أي أن وفود الحجيج هي التي يسّرت لهم الطعام والأمن دون أن يغادروا أرضهم.
رابعًا: نقد التفسير السائد
التفسير التقليدي يقول إن "رحلة الشتاء والصيف" تعني رحلات قريش التجارية إلى اليمن شتاءً، وإلى الشام صيفًا. لكن هذا التفسير يواجه إشكالات:
لا يتماشى تمامًا مع تركيز السورة على فضل الله المباشر على أهل مكة.
يستبعد أن يكون الله تعالى قد عظّم تجارة محدودة كانت لأفراد من قريش، بينما لم تكن تجارة شاملة لكلهم.
كما أن هذه التجارة كانت محفوفة بالمخاطر، وهو ما لا ينسجم مع قوله تعالى: "آمنهم من خوف".
خامسًا: وفود الحجيج مصدر رزق تاريخي ومستمر
فعليًا، استفاد أهل مكة عبر التاريخ – وما يزالون – من وفود الحجيج في الشتاء والصيف:
توفر تجارة موسمية من غذاء وكساء ودواء.
نشاط في النقل والخدمات والإيواء.
تكوّن مصدر رزق جماعي لجميع أهل مكة، لا لفئة محددة من التجار.
خاتمة:
سورة قريش تمثل دعوة للتأمل في كيفية ربط الله بين قدسية البيت الحرام وبين تدفّق الرزق والأمن على أهله. والتفسير الجديد الذي يربط "رحلة الشتاء والصيف" بوفود الحجيج والمعتمرين، يبدو أكثر اتساقًا مع مضمون السورة وروحها. وهو تفسير يدعو لإعادة قراءة كثير من الآيات في ضوء الواقع العملي والتاريخي، بعيدًا عن الجمود على الأقوال الموروثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق