تأمل وتحليل حديث لرؤيا النبى يوسف.
تأمل حديث في رؤية يوسف ورؤيا إبراهيم: هل كانت رؤية يوسف يقظة لا منامًا؟
عندما نقرأ قول يوسف الصغير لأبيه يعقوب عليه السلام:
"إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"
ثم نُقارنها بما قاله إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل:
"إني أرى في المنام أني أذبحك"
يتكشف أمامنا تباينٌ ملفتٌ في التعبير، يستحق وقفة تأمل.
فيوسف، وهو طفل بعدُ، لم يقل إنه رأى "في المنام"، بل جاء تعبيره مباشرًا: "إني رأيت...".
أما إبراهيم، فكان دقيقًا في التعبير، محددًا طبيعة رؤياه وزمانها: "في المنام".
فهل هذا الفارق في اللفظ مجرد صدفة؟ أم أن في ذلك إشارة خفية؟
إن حذف عبارة "في المنام" في كلام يوسف قد لا يكون سهوًا ولا اختصارًا، بل ربما هو مفتاح لفهم مختلف تمامًا لطبيعة ما جرى للطفل آنذاك.
لقد أخبر يوسف أباه بما رآه، وكأن ما رآه قد حدث أمامه في وضح النهار، بعين اليقظة لا بعين المنام. ولو كانت رؤيا نوم، لقال – كما يفعل الناس –: "رأيت في منامي" أو "بينما كنت نائمًا". لكنه لم يفعل.
وقد يُقال إن قول يعقوب: "يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك..." دليل على أنها رؤيا نوم، ولكن هذا الاستنتاج ليس لازمًا. فكلمة "رؤيا" في اللغة تُطلق على ما يُرى في المنام، وقد تُطلق أيضًا على رؤى اليقظة العميقة التي تحمل معنى ودلالة، كما في قول الله عن إبراهيم: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، وهي رؤية يقظة.
ثم إن يوسف نفسه، حين قال لاحقًا: "هذا تأويل رؤياي من قبل..."، لم يُحدد إن كانت في منامه أو يقظته. ولو أن السياق القرآني أراد حصرها في المنام، لقال ذلك بوضوح كما فعل في قصة إبراهيم.
إن يوسف كان صبيًا صغيرًا، قد لا يمتلك اللغة الكاملة لتصنيف ما رآه، لكنه علم أنه رأى شيئًا عظيمًا. فنقل إلى أبيه ما شاهده، وأباه – النبي العارف – أدرك من فوره أن ما رآه هذا الطفل ليس وهْمًا ولا خيالًا ولا رؤيا في منامه، بل بشارة عظيمة تتجاوز الإدراك العادي.
وربما لهذا لم يسأله يعقوب: "أفي منامك رأيتهم؟"، لأنه لمس في يوسف صدق الشعور وصفاء الإدراك، فعلم أن هذه الرؤية إنما جاءت في لحظة وعي مشحونة بالوحي الرباني.
هذا الفهم، إن صدق، يعيد رسم صورة يوسف في أذهاننا لا كطفل نام فرأى، بل كروح فتحت لها أبواب السماء وهي مستيقظة. ويرتفع المقام، إذ نكون أمام نبيٍ اختصه الله منذ طفولته بنوع من المشاهدة الباطنية المبكرة، وهي منزلة رفيعة قلّ أن نراها في سيرة الأنبياء.
ومع كل هذا، فإن هذا التأويل لا يكاد يُذكر في التفاسير القديمة أو الحديثة، التي استسلمت لهيمنة القراءة التقليدية التي تفترض – دون سؤال – أن رؤية يوسف كانت منامية. والحق أن مثل هذا التحليل لا يلغي التفسير التراثي، لكنه يدعو لإعادة التفكير، ويمنح النص القرآني مساحة جديدة للتأمل الحي المتجدد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق