السماء الدخان: قراءة كونية في لفظ قرآني
حين نقرأ قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَانࣱ﴾،
قد يسبق إلى الذهن المعنى المألوف للدخان بوصفه أثرًا للحريق، لكن العودة إلى اللسان العربي القديم تكشف أفقًا أوسع: فـ"الدخان" عند العرب قد يدل على كل غيم أو بخار أو ضباب يتصاعد، بل وعلى كل مادة لطيفة غير صلبة تملأ الجو وتغشاه. حتى إنهم قالوا: "تدخّن المكان" أي غشيه البخار أو الضباب.
هذا المعنى يمنحنا مفتاحًا مختلفًا لفهم الآية: فالسماء هنا لا توصف بدخان النار المنزلية، بل بحالة غازية أو ضبابية أولى، كتلك التي تحدّث عنها العلم الحديث حين وصف بدايات نشوء الأرض والكون بما يعرف بـ"السدم الغازية".
السياق القرآني
النص يسرد مراحل الخلق بترتيب واضح:
خلق الأرض في يومين.
جعل الرواسي وتقدير الأقوات.
الانتقال إلى السماء وهي "دخان".
ثم تسويتها سبع سماوات متميزة.
هذه البنية توازي المشهد العلمي: جرم أرضي أولي، تحيط به غازات وبخار كثيف، ثم انتظام طبقات الغلاف الجوي.
حوار السماء والأرض
اللافت أن الآية تنقل حوارًا بين السماء والأرض:
﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهࣰا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ﴾.
وهذا التعبير يصوّر خضوع المادة الأرضية والغازية معًا لقوانين الكون وناموسه، واستجابتهما لتوازن لا محيد عنه.
"الدخان" في صور قرآنية أخرى
القرآن يوظف هذا اللفظ في أكثر من موضع:
﴿یَوۡمَ تَأۡتِی ٱلسَّمَاۤءُ بِدُخَانࣲ مُّبِینࣲ﴾، وهو مشهد يمكن فهمه كغيمة كونية خانقة أو كناية عن فتنة كبرى، مما يثبت مرونة المصطلح واتساعه.
السماوات السبع كطبقات غازية
حين يذكر القرآن تسوية السماوات السبع، يمكن أن يُفهم ذلك على أنه طبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض: من التروبوسفير القريبة إلى الإكزوسفير البعيدة، كل طبقة لها خصائصها الفريدة في الضغط والكثافة والحرارة، ولكل منها دور حيوي في حفظ الحياة وتنظيم المناخ.
وإذا قيل: "وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح"، فالمشهد من منظور الإنسان هو أن النجوم تزين أقرب سماء، وإن كانت في الواقع أبعد بكثير.
انسجام النص مع الرؤية العلمية
العلم يقول: الأرض البدائية كانت محاطة بغلاف من البخار والغازات الناتجة عن نشاط بركاني وصدمات نيزكية. هذه الصورة القديمة يمكن أن يصفها العربي بكلمة واحدة: "دخان". وهنا يظهر التلاقي بين البيان القرآني والمعرفة الكونية الحديثة.
🔹 الخلاصة:
الدخان في النص القرآني ليس دخان النار الضيق المعنى، بل توصيف بلاغي لحالة غازية ضبابية أولى في تكوين الأرض وغلافها الجوي. والآية إذن لا ترسم مشهدًا شعبيًا بسيطًا، بل تكشف بلغة مألوفة للعرب صورة كونية دقيقة، تتناغم مع ما كشفه العلم بعد قرون طويلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق